سرّيّة المحرر الأدبي! – مقالة

عبدالواحد الأنصاري

في كتابه الصادر عن «دار أزمنة» بعنوان «هاهي الغابة فأين الأشجار»، شاد الكاتب علي بن جعفر العلاّق، فصلاً بعنوان: «ضوء النار ورماد المسوّدة».

وبعد اطلاعي على هذا الفصل بدقائق، وردتني رسالة من القاص الشاب محمد العرادي، يعلّق فيها على امتداح بعض الأدباء للمحرر الأدبي في الصحافة بقوله: «المحرر الأدبي موضة، لكن لا أحد يريده إلا بالسر».

فهل العلاقة بين المبدع والمحرر، أو المصحح، أو المستشار الأدبي، هل هي علاقة سرّيّة إذن؟ وهل ينبغي أن يُوأد المحّررُ الأدبي، أو أن يصبح رماداً إثر هذه «العلاقة العابرة»؟! وكأنما الأمر نزوة مخجلة جرتْ بين عاشقين، ثم افترقا بعدها، وكل واحد منهما يعاهد نفسه على هجر صاحبه إلى الأبد!

ومع ذلك، فإن ثمة نماذج تعتز بهذه العلاقة، يروونها، وترويها الأجيال عنهم، يقول العلاّق في كتابه: «كثيراً ما أتذكر، وأنا أتحدث عن المسوّدات الشعرية، ت. س. إليوت وبدر شاكر السياب، فقد قدّمت لنا مسوّدة «الأرض الخراب» شهادة نادرة، شهادة عن علاقة الشاعر إليوت بالشاعر إزرا باوند، الذي ترك بصماته واضحة على مسودة القصيدة حذفاً وتعديلاً، وإعادة ترتيب. وبالنسبة لرائعة السياب «أنشودة المطر»، فإن أثر جبرا إبراهيم جبرا لم يكن خافياً على العارفين بالعلاقة العميقة بين الرجلين. إن القصيدتين في شكلهما النهائي، بعيدتان إلى حد ما عما كانتا عليه في بدايتهما».

ويقول العريان في كتابه «حياة الرافعي»، في فصل بعنوان «فترة جمام»، عن «علاقته» بالرافعي: «كنت إذا جلست إليه ليملي عليّ، حاورته فيما يدقّ على الأفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القراء، ثم لا أزال به حتى يغيّر العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخفّ على السمع، وكان ينكر ذلك عليّ أول أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحياناً يوشك أن يغضب، وأنا أتلطّف له وأحتال عليه، ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي عليّ العبارة من المقال، ثم يسألني «ماذا فهمت مما كتبت؟» فإذا كان ما فهمت يطابق ما في نفسه، مضى في إملائه، وإلا عاد إلى ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد، وبلغ في النهاية أن يسميني – على المزاح -: العقل المتوسط من القراء».

ويقتبس البرتغالي جوزيه ساراماغو في مقدمة رواية «حصار لشبونة» هذه الجملة: «ما دمت لم تبلغ الحقيقة فلن تستطيع تصويبها، ولكنك إذا لم تقم بتصويبها فلن تصل إليها، وفي هذه الأثناء حذار من الاستسلام».

ويأتي الحوار في الرواية، التي تشغل شخصية «المصحح» دور بطلها الرئيسي، ليجسد هذه «العلاقة»، إذ تقول شخصية المؤلف عن المصححين: «أنتم ملائكتنا الحارسة، نثق فيكم، وحضرتك… تذكرني بأمي المغالية التي كانت لا تكف عن تكرار فَرق شعري حتى يصبح وكأنه مختط بمسطرة».

وعندما يقول المؤلف: «المؤلفون يعدلون دوماً»، يرد المصحح: «لكن تعديلات المؤلفين شيء آخر، فيها نظر، تختلف كثيراً عن تعديلاتنا نحن»، لتلخّص الرواية الموقف بعد ذلك في أن «عمل المصحح في المراجعة هو الوحيد الذي لن ينمحي البتّة من العالم».

هكذا حدث، وهكذا يجري، وهكذا أقول.. سواء في السرّ أم في الجهر!

رابط المقالة

 

زر الذهاب إلى الأعلى