فتح ملفّ شجرة

قصة

أمام عيني وتحت بصري، وفي رائعة النهار، وعلى مرأى من زوجتي العزيزة وأطفالي الصغار، ومشهد من جميع جيراني بنسائهم وصبيانهم المصعوقين: تشققت الجذوع، وتصدعت الأرض، وانفلقت، وهوت الشجرة المعمرة في سور دارنا، على وجهها، محدثةً دويّاً، ومثيرة زوبعةً هائلة غطّت الأرجاء، ونشرت سحابة من القتام على أربعة أسوار ذات اليمين، وذات الشمال، محطمةً أغصانها المتشعبة، داعسة أوراقها النضرة. ثم بدأت الزحف عن مربعها المطيّن الوثير المحدود لها في الأرض، حافرة لها طريقاً أخدودياً مريعاً. وراحت تتقلب وتتلوى في حركة أسطورية تحمل في طياتها كل الأصوات التي أصدرتها الأشجار في التاريخ دفعة واحدة، تثير من حولها مزيداً من سحب الغبار وزحاما من الصراخ والدهشة والتهليلات والتسبيحات، ساحبة نفسها –ومعها الذكريات الجميلة المسطرة على أديمها- تجاه الحائط، لتتحامل على نفسها واقفة مرة أخرى على جذوعها التي لا تزال رطبة، كعجوز كسيحة ذات إرادة عفريتية، تقف على قدم واحدة. وترنحت، ثم ألقت بجذعها العملاق على السور الواطئ، لتنقلب من فوقه رأساً على عقب، وترمي بثقلها على الطريق في جلبة متصاعدة كجثة هامدة، أو كرجل يلتقط أنفاسه على الشاطئ بعدما أوشك على الغرق. ومنذ ذلك الحين وليس لنا ولا للناس شغل ولا شاغل إلا الشجرة.

حين نقول زحفت، فهذا يتجاهل ما قبل فعل الزحف.

هل لفظتها الأرض، فزحفت؟ أو هي التي سئمت الأرض، فانتزعت جذورها منها، وزحفت؟

لو قلنا: لفظتها الأرض على وجه الحقيقة، فهل هو خرق عدائيّ من الأرض؟ أو أنه تصرّف منصف؟!

هل لفظتها الأرض دونما تقصير من الشجرة أو أنها لفظتها وطردتها لأنها عقّتها، وأهانت كرامة أمومتها؟

بعض الأفكار تميل إلى أن الأرض لا تكون آثمة أبداً، ولن تلفظ وتطرد ابنتها بأي حال من الأحوال، ولذلك فهي تجزم بأن قولنا: لفَظتها الأرض، مجازيّ جدّاً. وعندئذ فلا بدّ من سؤال: هل انتزعت الشجرة نفسها لأنها ضاقت ذرعاً بوقوفها، أو لأنها تمرّدت على مصدر حياتها، أو لأنها تريد أن تجرب طبيعة جديدة فحسب؟ أو لأنها هرِمتْ وتيبست وأشرفت على الموت، فلم يعد لديها فرق بين أن تبقى وأن تعصي وتغادر مَقامها؟

بعضٌ آخر من التأويل المتكلف يميل إلى أن الشجرة أغاظتها جملة أصبحت تتردد عنها، وهي جملة استعاريّة ساخرة منها، إذ يقال: الأشجار تموت واقفة، وهي تريد أن تموت متحركة، مستلقية، على ظهر، على جنب، كما تشاء.

بعض الأفكار تميل إلى أن الأرض لا تكون آثمة أبداً

وغيرهم يقولون: بعيداً عن كل استباق، وبدلاً من هلْ وبلْ، لنذهب إلى موضع انفصال الشجرة، نجري بحثاً محايداً، ننظر إليها، هل جفت عروقها وشاخت، أو أنها لا تزال في حميّا قوّتها وغمرة صباها على رغم أنها عمّرت ما عمرتْ؟ هل بخلت الأرض عليها، أو هي التي استكبرت وطغت؟ هل هي ملفوظة، أو لافظة لنفسها، أو هو ديالكتيك بينها وبين الأرض، أو هو تغيّر في الطبيعة تبدأ آثاره في الظهور منذ الآن؟

ويضادّهم آخرون فيريحون أنفسهم بأنه لا ذنب للأرض ولا للشجرة ولا دور للطبيعة، فهذا الفعل لا يخرج عن قدرات الملائكة أو الجنّ، ويبرهنون على أقوالهم بأنهم حين كانوا يمرون في الليالي المظلمة جوار السور كانوا يسمعون همهمات ووسوسات، وفي النادر خصومات تحتدم، وكانوا يسارعون في الخطو حينئذ وهم يستعيذون بالله، ويعدون شجرتنا مسكونة، وتفسيرهم لما جرى هو: كل ما هنالك أن سكّانها قرروا الانتقال، فنقلوا مسكنهم معهم.

أما الرومنسيون، وهم الأقرب إلى الاستهزاء بفاجعتي (رغم رومنسيتهم)، فيقولون: إنها رحلة عودة، وإن الأشجار في الأزمنة السحيقة الغابرة جاءت إلى هنا، وإلى كل مكان تقف فيه شجرة من العالم، ووقفت لتتأمل المنظر برهة من الزمن (في مقياس عمرها السرمدي)، وهي الآن، وبدءاً بهذه الشجرة الأقدم، ستشرع في مشوار الإياب، وربما ستأتي أجيال أخرى في الزمن الآتي، يثير استغرابها أن ترى شجرة معمّرة وقد اقتحمت أسواراً أخرى، لتستقر فيها، وكل الفرق بيننا وبين أولئك الذين سيأتون، أننا نستغرب رحيلها عنا، وهم سيستغربون مجيئها إليهم.

أنا أقول: ماذا فعلتُ ليحدث كل هذا؟!

عرفت هذه الشجرة منذ بدأت أدرك ما حولي، وكنت أعتز بأنها ظلت معمرة منذ ملكها صاحبها الأول، حتى اليوم، وأنا الآن مالكها السادس، في عز تملكي وسيطرتي.

كنت –وأنا أترعرع إلى جانبها- أستعيد سيَر أسلافي الذين امتلكوا هذه الأرض بإنقاذها من البوار. وكان يتعاظم في نفسي إجلال شجرتي وتوقيرها، وأنا أعلم أن أحداً منهم لم يكن له دور في ظهورها، فأول مالك منهم، وجدها حيث هي الآن (أعني قبل زحفها إلى الطريق) وجدها في مكانها وهي معمرة، ومات وهي معمرة، وربما مرت قبله وقبل أسلافي الذين بعده أجيال أفنتهم هذه المعمّرة وبقيت بعدهم. مئات من السنين غبرت، بقضها وقضيضها، حلوها ومرّها، خصبها وجدبها، وخمسة، أنا سادسهم، لم تتحرك هذه الشجرة أمام أنظارهم، ولا اهتزت الأرض من تحت أقدامهم، ولا جرى لأحد منهم ما جرى لي.

وكل أولئك، أجزم بأنني أحق بها منهم، لأنني عرفتها قبل أن أعرف المطر، والسماء، والشمس، وحين عرفت، أوثقت بها علائقي، وجعلتها مرآة لحياتي: رسمت عليها صوَري، متكئاً وواقفاً، وملوّحاً بيميني. جعلتها لي متحفاً ومعرضاً، رسمت عليها كرجال الكهوف طفولتي ونشأتي وشبابي ورجولتي، وألصقت على كل شبر منها صورة لي ولزوجتي وأطفالي، وشيئاً من أيامي الزاهية. فصّلتها كالكائن الذي له يدان وقدمان وعينان وقلب، وحفرت قلبها ووضعت لي فيه تمثالاً صغيراً، يبتسم لكل من يطلّ عليه. رفعت إحدى يديها إلى اتجاه الدار، تلوح لي حين الخروج، ووجهتها الأخرى إلى الخارج تحتفي بي حين العودة، وعلّمت أولادي أن ينقشوا عليها حين أمرض أو أسافر: متى تشفى يا بابا؟ متى تعود يا بابا، وحين العودة والشفاء: الحمد لله على سلامتك يا بابا، أسفرت وأنورت بقدومك يا بابا.

وكل أولئك، أجزم بأنني أحق بها منهم

سؤالي هو سؤال آخر يختلف تماماً عن كل تلك الأسئلة التي تقول: كيف ولماذا؟ أسئلتي تقول: كيف أصنع الآن، وماذا أفعل، وما الذي يمكن أن يبقى؟!

أحس بأنني سأغادر هذه الأرض قسراً، أو أن شيئاً ما سينتزعني ويلقي بي هنالك إلى القارعة، مثلما حدث لها، وقد يتزامن ذلك مع عبور سيارة مسرعة، أو سخرية طفل عابث، أو شماتة عدوّ متربص.

أحياناً أحدث نفسي –ولو قليلاً–: هل قصرت في شيء؟!

وتنتابني لوعة ضروس، فأهمّ بأن أنتعل الحفاء، وأزحف إليها وأحتضنها وأستجديها، أو حتى بأن أغرس أغصانها في صدري كالحراب، وأستسلم لمصيري. ثم تعاودني كبريائي الجريحة، فأحجم عن الإقدام، ويدهمني شعور بأن هذه أسئلة وحلول كأسئلة وحلول الموت المحتوم: كلها تُطرح بعد فوات الأوان.

زر الذهاب إلى الأعلى