نقاش ثقافيّ.. منذ تسعة قرون!

عبدالواحد الأنصاري

 

اطلعت على طبعة قديمة في مكتبة أحد الندامى الأعزاء من مقامات الحريري، ملحَقاً بها اعتراضات ابن الخشاب على الحريري، وانتصار ابن بري للحريري عليه.
وعلى أنّ صلتي بالمقامات تعود إلى أكثر من عقدين، أي: منذ كنت طالباً في المرحلة المتوسطة في معهد الرياض العلمي، إلا أنني وجدتني مأخوذاً بنقد ابن الخشاب (البغدادي) الحريريَّ (البصري)، وبتعقّب ابن بري (المقدسي) ابنَ الخشّاب، وكلّ ذلك خلال قرن واحد من الزمان، أي في القرن السادس الهجري، وقبيل أن تسقط حاضرة الدنيا (بغداد) في أيدي المغول بعشرات الأعوام.
لقد أبهجت خاطري ثقافة ابن الخشاب وقدرته على التتبع – على ما في نقده من تحامل –، حتى لكأنه – في مطلع نقده – يلقي في روع القارئ أنه يعرف مصادر الحريري التي استفاد منها في كتابه، والمزالق التي وقع فيها، وكأنه يطلّ على سريرة صاحب المقامات من نافذة علويّة هي نافذة الاطّلاع الموسوعيّ الذي متّعه الله به.

رصد ابن الخشّاب مواضع أخذها الحريري ممن سبقوه من أساطين الكتابة

**

غير أن اقتفاء ابن بري ابنَ الخشّاب زادني بهجة على بهجة، بسطوته العلمية المتمكنة القاهرة، مع قدر كبير من الإنصاف، استطاع به أن يتجنب تكلُّف الرد على ما أصاب فيه من نَقد، وتلك لعمري سمة المناظرات في ذلك العصر الجميل، وكأن ابن حجر العسقلاني، الذي جاء بعد ذلك ليتعقب ردود العَيني عليه في (انتقاض الاعتراض)، كأنه كان يغترف من معين هذا الإنصاف، فكان– وهذا استطراد – كلّما وقف على شيء من اعتراضات العَيني التي لا يجد لها مَدفعاً، فإنه يتجاوزها، ولا يتجشّم محاولة الرد عليها، ذلك هو سلوك الإنسان المثقف في ذلك العصر.

**

وقد رصد ابن الخشّاب مواضع أخذها الحريري ممن سبقوه من أساطين الكتابة، وهذا هو نص الكلام:
(قال في أول كتابه في الخطبة: ونعوذ بك من شرّة اللسن، وفضول الهذر، كما نعوذ بك من معرّة اللكن، وفضوح الحصر. قال الإمام ابن الخشاب: هذا الكلام بعينه في كتاب البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن يحيى بن محبور [كذا في هذه الطبعة، وهو محبوب] الكناني المعروف بالجاحظ، ويقال: الحدقي، وهذ الكتاب أشرف مصنفاته وأغزرها فائدة على كثرتها وتفننها، مع كبر حجم وكثرة علم، وإن كان كتابه في الحيوان أضخم منه وأكبر حجماً، ولكن هذا أغزر عند طالب البلاغة علماً، ولا حرج على ابن الحريري، فإنه أغار على بلديّه، ولم يحلّ حبوته في غير نديّه، اقتداء بقوله:
وأحياناً على بكر أخينا * إذا ما لم نجد إلا أخانا
بصريٌّ صالتَ بصريّاً، كما قال عذافر:
بصريّةٌ تزوّجتْ بصريّا * يُطعِمُها المالحَ والطريّا).

ثم جاء في الكتاب:
(وقوله: إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، هو بعينه أبي [كذا في هذه الطبعة] العلاء المعرّي، في رسالة له موجودة في بعض رسائل حفظها ابن الحريري بعينها).

**

أما وقد تحدثت آنفاً عن ابن حجر واعتراض العَيني عليه، في القرن التاسع الهجري، فإني لا أريد أن أفوّت على القارئ فرصةَ الاطلاع على شيء مما جرى بين هذين العالِمين أيضاً، مما له بما سبَق ذكرُه في هذه المقالة صلةُ المشبّه بالمشبّه به، فقد قال العسقلاني رحمه الله في ردّ اعتراض البدر، وكأني بقائل يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، قال ابن حجر:
(ثم ذكر مقدّمة لطيفة انتزعها من القطعة التي كتبها شيخ الإسلام النووي، ولو كان نسَخها من نسخة صحيحة ونسَبها إليه لاستفاد السلامة مما وقع في خطه من التصحيف لكثير من الأسماء والسمات، والتحريف لبعض الكلمات، وقد تتبعت ما وقع له من ذلك في تلك الكراسة التي ابتدأت بها خاصة، فزاد على ثمانين غلطة، فأفردتُ ذلك في جزء سميته “الاستنثار على الطاغي المعثار”).


ومع أن ابن حجر رّد بهذا الكلام القوي، فإنه يترك اعتراض العَيني عليه في بعض المواضع دون تعليق، ولا أفسّر ذلك إلا بأنه من إنصاف العسقلاني، فهو لا يتكلف الردّ على الخصم حين يجِد له مقالاً، ومثال ذلك هذا النص من (انتقاض الاعتراض)، قال:
(باب قول الله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها).
ذكر فيه حديث البراء: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا… الحديث.
قال (ح) [أي ابن حجر]: هذا ظاهر في اختصاص ذلك بالأنصار.
قال (ع): [أي العيني]: لا نسلّم دعوى الاختصاص؛ لأن هذا إخبار عن الأنصار أنهم كانوا يفعلون ذلك، ولا يلزم نفي ذلك عن غيرهم).
انتهى.
قلت: وربما ترك ابن حجَر الرد على البدر هنا ليحكُم القارئ بأنه اعترض على ظاهر كلام الصحابي، غير أن ما ذكرتُه آنفاً أقرب إلى المراد من عموم أسلوب العسقلاني في الكتاب، والله أعلم.

**

أما بعد هذا الاستطراد، فإني أعود إلى شأن الحريري وابن الخشّاب وابن بري، وأقول: إن من أجلّ ما حوته هذه الردود والتعقّبات أنّها نقلت إلينا صورة من صوَر ثقافة ذلك العصر، قبل تسعة قرون، وحفظت لنا جملة من أساليب الحوار والنقاش والمناظرة فيه، كما أنها دلّتنا على بعض أهمّ المصادر والمراجع المشتهرة في ذلك الحين، بحيث يكون في وسعنا أن نقول عن بعض الكتب التي تتحدث عنها تلك المناقشات – إن كانت وصلت إلى أيدينا – إنها مما بقي وانتشر في الأمصار، وكتب الله له النجاة من يد المغول أن تبيده فيما أبادته من نتاج الحضارة الإسلامية في بغداد. وأما إذا لم يكن الكتاب عندنا – مع حفاوة أولئك الأوائل به – فإننا نعلم حينئذ أننا فقدنا أحد الكنوز، وربّما يعنّ لنا أن نذكر عند الحاجة أنه من الكتب التي وردت أسماؤها في المناظرة التي جرت بين فلان وفلان، وفي هذا من القيمة الثقافية ما لا يخفى على مُتأمِّله.
لم أخلُ وأنا أتصفّح اعتراضات ابن الخشاب وانتصار ابن بري من فوائد أخرى، وتلك هي ثمار كلام أدباء ذلك العصر حين يبحرون بنا بين جزائرهم الجميلة، فهاهوذا ابن الخشاب يشير إشارة لطيفة إلى أن بعض القصص الشعبية التي اشتهرت في الأزمان المتأخرة كانت معروفة منتشرة آنذاك، قبل تسعة قرون، بل إنه يقارن بينها وبين المقامات، فيقول:
(… ما احتجّ به [أي الحريري] من الموضوعات على ألسنة العجماوات والجمادات لا يشبه ما أخذ فيه من ذكر الحارث بن همام وأبي زيد السروجي؛ لأن ما ذكر من ذلك في الكتاب المعروف بكليلة ودمنة أو حكايات السندباد موضوعة وضع الأمثال…).
فها قد علمنا علم اليقين من مصدر إضافي موثّق أن قصة السندباد – وقد تكون هي التي نُظمتْ بعد ذلك في سلك كتاب ألف ليلة وليلة – كانت مشتهرة بين أدباء ذلك العصر، حتى إن بعضهم كانوا يمثّلون بها في المناظرة والحِجاج.


ولا يفوتني هاهنا أن أذكّر بمقال دوّنه خالد كبير علاّل في قضية نقد ابن الخشّاب للحريري، وأن من فضائل هذا التعقب أنه كان عملاً رائداً في نقد المقامات، وأشير هنا كذلك إلى ما جاء في كتاب ضياء الكعبي (السرد العربي القديم، الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل) الذي أثنى ناصر الدين الأسد ثناء حسناً على وضوح رؤيته وأسلوبه، وأورَدَ المقطع الذي نقلتُ طرفاً منه من حديث ابن الخشّاب عن السندباد بطوله، وذكرتْ مؤلفتُه أن ابن الخشاب وابن بري – كليهما – وظّفا الشواهد القرآنية والحديثية والشعرية والأمثال وكلام العرب، وأنهما استشهدا بعلماء اللغة من أمثال الخليل بن أحمد، وسيبويه، والأصمعي والكسائي، وابن دريد، والسيرافي، وغيرهم. غير أني لم أرَ – ولا أدّعي الإحاطة – في كلا المرجعين، أو ما قرأته حول الأمر، إشارة إلى ما اهتمت به هذه المقالة، ومنه: رمي ابن الخشاب الحريري بالسطو على الجاحظ وأبي العلاء، واجتناب ابن بري انتقاده على ذلك، ومنه: الإحالة على حكايات السندباد في النقاش الدائر حول المقامات منذ القرن السادس الهجري بين العالِمَين المذكورين، ومنه التذكير ببعض وسائل معرفة بعض المصادر والمراجع التي كانت منتشرة في ذلك العصر، مما لا يزال باقيا ًبين أيدينا، أو ممّا قد نكون فقدناهُ فيما فُقد مع اقتحام المغول حاضرة العالم (بغداد)، أو مع تراكم غبار قرون من التأخر، انطفأت – أو كادت تنطفئ – على إثرها شمس تلك الحقبة الجميلة.

زر الذهاب إلى الأعلى