مخاضات الرقة – قصة

عبدالواحد الأنصاري

ظللت بضع سنين قصيّا، تقيدني إلى الأرض سجادة تؤم بناصيتها زاوية الجدار المنكفئة على نفسها كامرأة محدودبة.

آلاف السجدات مرقت كالبرق، وسمحت بخشوعات نزرة متقطعة، ثم انقطعت، ومضت، واختفت.

وآنستُ وحشة صدئة لم يشحذها الجهد ولا التبتل.

ابتهلت أن يرق قلبي فارتد الصدى إلي عن الباب المؤصد، وواجهتني الخيوط الهاربة إلى الأمام بانثناءاتها سخريةً وهزوا. وجابهني الركن الغامض بصمته الكئيب، وكأنه معشوقة هاجرة، أو رحم غير رؤوم. وأعيتني الحيل.

في خجل غامر تحركت أطرافي، وتلجلجتُ بخطاي المنكسرة على المسار الذي تعرفت عليه أقدام طفولتي النازحة، وطالما أفضى بي مسوقا شبه مسرنم في القتام إلى المسجد الوطيء.

لا شوقا لمحرابه المنتصب قوس نصر مجوف، وإنما تشوفاً لأن يرقّ قلبي.

خافضا هامتي المثقلة بهمها الذليل، التففت على الجدران المنقبضة التي رأيتها آخر مرة منذ عهد غابر لم أعد أتذكره، واستتممت دورتي لأقف على الأعتاب.

دفعت الباب القديم، فإذا برطوبة طحلبية آسنة من تسرّب مياه قديمة تقتحم جفاف قدمي. وولجت والسحر يلفظ زفيره ليستنشقه الفجر المنقض من وراء الغيم المتراكم، وانسل نصل غبار غادر إلى حنجرتي، فسعلت، وحضرني معنى التناقض بين رطوبة آنفة وغبار حاضر، وارتجف السكون، وانتفضت حمامتان –ظننت- استوطنتا واحدة من الكوى المقوسة كحذوات الأحصنة على مشارف السقف، وكأني بريشهما المنفوش يتهادى أرواحاً متأرجحة، متمايلا في هبوطه المستنيم إلى الأرض.

خافضا هامتي المثقلة بهمها الذليل، التففت على الجدران المنقبضة التي رأيتها آخر مرة منذ عهد غابر لم أعد أتذكره، واستتممت دورتي لأقف على الأعتاب

خمنت وجودا غريبا، شخصا –ربما- يستوي على ظهره نائما بعد قنوت طويل، وأنا أتخبط في الظلمة ماسحا بيديّ الجدار الخشن العتيق، مفتشا عن قوابس الضوء. وبعد لأيٍ ومشيٍ ما هو إلى الأمام ولا إلى الخلف، وإنما ذات يمين وذات شمال، لم يشتعل من بِضعتها إلا واحد يتيم، ارتعش كعين تواشك الإغماء، ثم قرّ هزيلا كليلا، وتخلقت تحته دائرة صغيرة متعرجة يلفها القتام، فأيقنت أن لا أحد.

تأملت يديّ المبسوطتين فهالني عفار معمّرٌ يتبطنهما، وراعني الغبار المتصاعد من تحت قدمي إذ ضربت بهما البساط المتهالك. واستقرّ في خلدي أنه مسجد مهجور.

همست معترفاً: لا عجب، فقد غبت طويلا.

حركت جذعي بركعتين لهما طعم السأم، مجتذبا أنفاسي الملوثة بفمي، واستلقيت أنتظر انبثاق الصبح، محدثا نفسي بأن شيئا ما سيكذب حدسي.

مضيت أجذب أنفاسا حذرة، وأنا أصغي إلى الكائنين الوحيدين اللذين ترتجف حناجرهما من فوقي بهديل الخوف.

الصمت طال، والوقت مر، ولم يأت فجر كنت أظنه وشيكا، ولا صاح ديك، ولا تلقيت أذانا متناهيا من المدى المديد. وتعرق جسدي، ومسحتْ ملوحة حارقة وجهي، ومرت بين أهدابي، وقرصت أطراف فمي. وغفوت، وأفقت.

ولجت والسحر يلفظ زفيره ليستنشقه الفجر المنقض من وراء الغيم المتراكم.

تفرست عيناي في الظلمة المنزاحة شيئا فشيئا، تبتغي وجه المحراب، كما لو أنني أجهل السبيل إليه، وتحسست خطاي دربه الخاوي كأنه مزروع بآلاف العقبات، وهناك بحثت -مارّا بأصابعي المضطربة المتعرقة في دائرة محيطها ما ملكت يداي- عن قابس المكبّر.

وحين وجدته واستجاب، نفثت فيه الروح، وظللت برهة مصيخاً. ثم لويت عنقي بشدة تجاه الكوى التي تسلل منها -رويدا رويدا- نهار غريب أصفر، وولجت منها شمس كأنما تشرق من كل الجهات.

نفخت من روحي مرة أخرى، في منقار الطائر، وأطلقت الأذان من عمق صدري كفوهة مدفع، وكأن جوشني كهف غائر في التاريخ، وأراد أن يندفق بقصته دفعة واحدة. غير أن حبلا انقطع، وكأنني أصرخ من حلم عميق عميق.

وأحسست أن الصوت روح محتبسة في القلب، وهي تقتلعه نشدانا للخلاص.

استمرّ مريري، وظل الكائن يخنقني من كل الجهات، ولاب كحمم البركان في جوفي، واضطرب، وتفاقم، يكاد يفجرني.

استقمت كعمود الرخام، وانثنيت كالكوب المقلوب، وحاولت وأنا أموت أن ألد صوتي.

زر الذهاب إلى الأعلى