الصفر التام

قصة - عبدالواحد الأنصاري

خيل إليّ أن الأمر شبيه بـ”قسمتي ونصيبي”*، فعندما عُرضت عليّ أسماؤهم، ورأيت على رأس الصفحة: قسمتي ونصيبي، هممتُ أن أشيحَ وأبتعد بنظري، فالتاريخ قلّما يكرر نفسه، ولكنه حين يعيد قصته فقد يكون مثيراً أو مملاًّ، وهو بالنسبة إليّ مملّ، وإذ يعود لما كان عليه فذلك لا أراه تاريخاً بقدر ما أعدّه قانوناً أو سنّة كونية.
كدت أن أنصرف بوجهي عن الملفّ، لكن قُدّر لي أن أتنبه إلى شيء قبل فوات أوانه:
هؤلاء ثلاثة توائم، قسمتي ونصيبي، يتوسطهما حظي.
هنا أتحصل على جديد، فشروق الشمس وبزوغ القمر يبدوان عاديين جداً إلى درجة التعاسة المطبقة – أتحدث عن شخص يشاهد الشروق والغروب منذ مئات الملايين من السنين – لكن لو طلعت فجأة شمس وقمران، أو قمر وشمسان فسيكون ذلك لافتاً أشهراً عدّة دون شك، فما بالك بما لو أشرقت غداً شمس وقمر، ومعهما شيء ثالث؟!
هذا هو نفسه ما حصل لي مع: قسمتي، ونصيبي، وحظي، هذا الثالوث الموّحّد الذي يعاني مأزقاً ثلاثيّ الأبعاد.
وقبل كل شيء: يجب أن أنبه إلى أن ملف السياميين الذي أتحدث عنه (كسائر الملفات المشابهة) لا أحد يستطيع قراءته بالطريقة البدائية التي يقرأ بها الآدميون، لأنه يحتاج إلى عقلية تحليلية فوريّة استثنائية، لكنني أستخدم كلمة “أقرأ” مجازاً فقط، لكي تفهموا ما أقوله، ريثما يتبيّن لكم ما أعنيه بالقراءة.

أتحدّث عن شخص يشاهد الشروق والغروب منذ مئات الملايين من السنين

أقرأ ما يقتضي أن الملتصقين يتعذر فصلهم، إلا في حالة موت أحدهم فقط، وهذا ما سيتسبب في فقر عائلتهم، نتيجة لمحاولات طبّية تحلم بالفصل المبكر، لكنها تبوء بالفشل، وينتهي الإخوة والعائلة آخر المطاف إلى التسليم للقدر.
وأقرأ أنهم يجلسون ويقفون كأنهم جنود حراسة. وأن حركتهم الأمامية ممكنة بكل ارتياح كحركة أيّ جنود مدرّبين جيّداً. وأن الجانبيّة صعبة جداً لكن لا يستحيل التأقلم معها وأداؤها عند الاضطرار، إلى غير ذلك من أشياء يقتضيها هذا التصميم كأنه من أجل إشعارهم بالتكافؤ حتى في الأوضاع الحميمية، فينبغي أن يكونوا مع ثلاث نساء في سرير واحد عريض يعادل عددهم أسرّةً مزدوجة، أو على أديم الأرض التي هي بالفعل مهادٌ وفراشٌ وبطنٌ للخليقة كلها، وأنه لا فرصة للتقلّب بين أي من تلك الأوضاع، وإنما يجب أن تقرر الفرق وتتصالح قبل البدء على أيّ وضع تستريح، فوقاً أم تحتاً، أماماً أم خلفاً، وقوفاً أم جلوساً. وأنه لإراحتهم فيزيائياً يُستحسن فتحُ بابٍ منزلي يتسع لدخولهم معاً، وأنّ الملابس التي ستفصّل لهم ستكون في الأصل قميصاً لشخص واحد برؤوس وأيدٍ وسراويل لبضعة أرجل، مثل أيّةِ أزياء تجهّز لكائن أسطوري مركّب بهذا الشكل، لا لكائنات متعددة.
في الملفّ الذي أقرؤه لا يوجد ترتيب زمانيّ أفقيّ كما يظنّ كثيرون ممن يمنّون أنفسهم بالمرور على أشياء مزعجة كهذه؛ بل أقرأ أربع خانات صغيرة في أعلاه، مختصرة، تتضمن السيرورة والصيرورة. أدباء البشر وقصاصهم يظنون أن السيرة لها بداية ولها نهاية، ولا يتعاملون معها على أنها مقدّرات وإحصاءات، تتوزّع بحسب كل نفس: نفس قسمتي، ونفس نصيبي، ونفس حظّي العالق بينهما، ولا شكّ أن أيّ قارئ كفء للملفّ سيلحظ منذ التفحص الأول أي حرمان سيؤول إلى حظّي بسبب تميز قسمتي ونصيبي عنه بأن كلاً منهما يمتلك مساحة على أحد الطرفين هو محروم منها، لكن المثير هو أن أيّ محروم (في عُرف هذه الملفات) يجب أن يتضمن ملفه سبباً مفسّراً استحقاقياً لحرمانه، أو أن يتضمن تعويضه عنه.
بنظرة شاملة على البيانات لاحظت شيئاً أراه أوّلَ مرّة، وبهذا تنخرق قاعدة لفت النظر التي مثّلتُ لها قبيل قليل بانبثاق قمرين وشمس، أو قمر وشمسين، أو قمر وشمس وشيء آخر كما هو حال حظّي. ويتطوّر إلى صورة جديدة لا يتيسر أن أجد لها مطابقاً إلا في قسمتي ونصيبي وحظّي.
وهذه الصيغة هي: أنني وجدت فراغاً تامّاً في إحدى الخانات لدى قسمتي، وفراغاً تامّاً في الخانة المضادة لها عند نصيبي، وفراغاً تاماً في الخانتين لدى حظّي، وعبارة “تامّا” تعني الخلوّ التّام من الشيء ظاهراً وباطناً.
قد يتبادر إلى الذهن أن هذا هو تأويل أن قسمتي مطلق الجانب الأيمن، ونصيبي مطلق الجهة اليسرى، وحظي معصور بينهما، لكنه ليس كذلك.

أي حرمان سيؤول إلى حظّي بسبب تميز قسمتي ونصيبي عنه

قسمتي كان غنيّاً بالتعدادات في خانة الضحك، خاوياً في خانة البكاء، ونصيبي كان مترعاً في خانة البكاء، خالياً تماماً من الضحك، وأما حظي: فلا ضحك ولا بكاء، ليس ذلك بمعنى أنه لا يضحك ولا يبكي فقط، فكثير من المخلوقات كذلك، لكن هذا بمعنى التجرد المطلق، أي لا شعور بسعادة، ولا بفرح ولا بظفر ولا أي نشوَة، وكذلك لا شقاء ولا حزن ولا انكسار ولا ألم، لا شيء، صفرٌ تامّ بمصطلح هذه الملفات.
شدني هذا، ورحت أقرأ بالتسلسل ما أفهم منه:
قسمتي الضاحك يتعرّض للنهاية سريعاً، لأنه يلاقي للحرمان بسبب انشراحه الدائم، والانشغال عنه بالاستجابة لشكوى نصيبي، وأنه لا يعبر عن احتياجاته، ولا يشكو من شيء، ولا يضايقه شيء، ولأن الآخرين قد يظنون أنه يسخر بهم، فهو لاذع باستهزاءاته التي تحرّك الحقد عليه، ولأنه محسود على سعادته المطلقة، فيُفصَل جسده، وينطلق أحد ذراعي حظي.
نصيبي يتعرض للنهاية بعد قسمتي مباشرة، رغم أنه عاش مميّزاً عنه بأشياء كثيرة، لأنه الناس أشفقوا عليه واعتنوا به أكثر من أخيه، ولأنه فقد أخاه الذي كان يذب عنه بلسانه حين يتعرض الثلاثيّ للأذى. والآن خلَفه حظّي الفاتر الجامد الذي سيزيده أسىً؛ فيقتضي ذلك أن يموت جزعاً وبكاء على توأمه الفقيد.
ويبقى حظي بعدهما: يتحرر جانباه المحبوسان، وينطلق ذراعاه كجناحي العقاب، وتنطلق ساقاه للريح، وتتحسن صحته، ويشرئب قوامه.
لكنه يعيش فارغاً تماماً، لا سعيداً ولا تعيساً، لا شيء سوى أنه يعيش في سديم سرمدي مستديم، كالفراغ الذي كان قبل بدء هذا الخلق، تماماً.
أشعر بالفراغ.
فحين بدأت هذه الحكاية كنتُ مثل قسمتي، وحين اقتربت من آخرها تحولت تدريجياً مثل نصيبي، وعندما فرغت منها تماهيت تماماً مع حظي.
أحسّ بالفراغ، فمنذ عقود من القرون لم أجد قصّة سوى هذه تستحق أرويها، وهاهيذي قد انقضت.

_________________________________________________________________________________________

*عنوان لقصة لنجيب محفوظ تحمل الاسم نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى